فصل: (سورة يوسف: الآيات 30- 32)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الزمخشري:

.[سورة يوسف: الآيات 30- 32]

{وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا}
{وَقالَ نِسْوَةٌ} وقال جماعة من النساء وكنّ خمسا: امرأة الساقي، وامرأَة الخباز، وامرأَة صاحب الدواب، وامرأة صاحب السجن، وامرأة الحاجب. والنسوة: اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقى كتأنيث اللمة، ولذلك لم تلحق فعله تاء التأنيث. وفيه لغتان: كسر النون وضمها {فِي الْمَدِينَةِ} في مصر {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} يردن قطفير، والعزيز: الملك بلسان العرب فَتاها غلامها. يقال: فتاي وفتأتي، أي غلامى وجاريتي {شَغَفَها} خرق حبه شغاف قلبها حتى وصل إلى الفؤاد، والشغاف حجاب القلب، وقيل جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب.
قال النابغة:
وَقَدْ حَالَ هَمٌّ دُونَ ذَلِكَ وَالِجٌ ** مَكَانَ الشِّغَافِ تَبْتَغِيِه الأَصَابِعُ

وقرئ: {شعفها} بالعين، من شعف البعير إذا هنأه فأحرقه بالقطران، قال:
كَمَا شَعَفَ المَهْنُوءَةَ الرَّجُلُ الطّالِى

و{حُبًّا} نصب على التمييز فِي ضَلالٍ مُبِينٍ في خطإ وبُعدٍ عن طريق الصواب بِمَكْرِهِنَّ باغتيابهنّ وسوء قالتهنّ، وقولهنّ: امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعانى ومقتها، وسمى الاغتياب مكرًا لأنه في خفية وحالى غيبة، كما يخفى الماكر مكره. وقيل: كانت استكتمتهنّ سرّها فأفشينه عليها {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} دعتهنّ. قيل: دعت أربعين امرأة منهنّ الخمس المذكورات {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} ما يتكئن عليه من نمارق، قصدت بتلك الهيئة وهي فعودهنّ متكئات والسكاكين في أيديهنّ: أن يدهشن ويبهتن عند رؤيته، ويشغلن عن نفوسهنّ فتقع أيديهنّ على أيديهنّ فيقطعنها، لأن المتكئ إذا بهت لشيء وقعت يده على يده، ولا يبعد أن تقصد الجمع بين المكر به وبهنّ، فتضع الخناجر في أيديهنّ ليقطعن أيديهنّ، فتبكتهنّ بالحجة، ولنهول يوسف من مكرها إذا خرج على أربعين نسوة مجتمعات في أيديهنّ الخناجر، وتوهمه أنهنّ يثبن عليه. وقيل: متكأ: مجلس طعام لأنهم كانوا يتكؤن للطعام والشراب والحديث كعادة المترفين، ولذلك «نهى أن يأكل الرجل متكئا» وآتتهنّ السكاكين ليعالجن بها ما يأكلن. وقيل: {مُتَّكَأً} طعاما، من قولك اتكأنا عند فلان: طعمنا، على سبيل الكناية، لأن من دعوته ليطعم عندك اتخذت له تكأة يتكئ عليها. قال جميل:
فَظَلَلْنَا بِنِعْمَةٍ وَاتَّكَأْنَا ** وَشَرِبْنَا الْحَلَالَ مِنْ قُلَلِهْ

وعن مجاهد {مُتَّكَأً} طعاما يحزّ حزّا، كأن المعنى يعتمد بالسكين، لأنّ القاطع يتكئ على المقطوع بالسكين. وقرئ: {متكا} بغير همز. وعن الحسن: متكاء بالمدّ، كأنه مفتعال، وذلك لإشباع فتحة الكاف، كقوله (بُمْنتَزاحِ) بمعنى بمنتزح. ونحوه (يَنْبَاعُ) بمعنى ينبع. وقرئ: {متكا} وهو الأترج، وأنشد:
فَأَهْدَتْ مَتْكَةً لِبَنِى أبِيهَا ** تَخُبُّ بِهَا العثَمْثَمَةُ الْوِقَاحُ

وكانت أهدت أترجة على ناقة، وكأنها الأترجة التي ذكرها أبو داود في سننه أنها شقت بنصفين، وحملا كالعدلين على جمل. وقيل: الزماورد وعن وهب: أترجا وموزًا وبطيخا.
وقيل: أعتدت لهنَّ ما يقطع، من متك الشيء بمعنى بتكه إذا قطعه. وقرأ الأعرج: {مُتَّكَأً} مفعلا، من تكئ يتكأ، إذا اتكأ {أَكْبَرْنَهُ} أعظمنه وهبن ذلك الحسن الرائع والجمال الفائق.
قيل: كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم: «مررت بيوسف الليلة التي عرج بى إلى السماء، فقلت لجبريل: من هذا؟ فقال يوسف» فقيل: يا رسول اللّه، كيف رأيته؟ قال: «كالقمر ليلة البدر» وقيل كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران، كما يرى نور الشمس من الماء عليها.
وقيل: ما كان أحد يستطيع وصف يوسف. وقيل: كان يشبه آدم يوم خلقه ربه. وقيل: ورث الجمال من جدّته سارة. وقيل: أكبرن بمعنى حضن، والهاء للسكت. يقال: أكبرت المرأة إذا حاضت، وحقيقته: دخلت في الكبر لأنها بالحيض تخرج من حدّ الصغر إلى حدّ الكبر، وكأن أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله:
خَفِ اللَّهَ وَاسْتُرْ ذَا الْجَمَالَ بِبُرْقُعٍ ** فَإنْ لُحْتَ حَاضَتْ في الْخُدُورِ الْعَوَاتِقُ

{قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} جرحنها، كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، تريد: جرحتها حاشَ كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء. تقول: أساء القوم حاشا زيد. قال:
حَاشَا أَبِى ثَوْبَانَ إنَّ بِهِ ** ضَنَّا عَنِ المَلْحَاةِ وَالشَّتْمِ

وهي حرف من حروف الجر، فوضعت موضع التنزيه والبراءة، فمعنى «حاشا اللّه» براءة اللّه وتنزيه اللّه، وهي قراءة ابن مسعود، على إضافة {حاشا} إلى {اللّه} إضافة البراءة. ومن قرأ: {حاشا للّه} فنحو قولك: سقيا لك، كأنه قال: براءة، ثم قال: للّه، لبيان من يبرأ وينزه.
والدليل على تنزيل {حاشا} منزلة المصدر: قراءة أبى السمال: {حاشَ لِلَّهِ} بالتنوين. وقراءة أبى عمرو {حاشَ لِلَّهِ} بحذف الألف الآخرة. وقراءة الأعمش {حاشَ لِلَّهِ} بحذف الألف الأولى.
وقرئ: {حاشَ لِلَّهِ} بسكون الشين، على أن الفتحة تبعت الألف في الإسقاط، وهي ضعيفة لما فيها من التقاء الساكنين على غير حدّه. وقرئ: {حاشا الإله}. فإن قلت: فلم جاز في حاشا للّه أن لا ينوّن بعد إجرائه مجرى: براءة للّه؟ قلت: مراعاة لأصله الذي هو الحرفية. ألا ترى إلى قولهم: جلست من عن يمينه، كيف تركوا (عن) غير معرب على أصله؟ وعلى في قوله (غدت من عليه) منقلب الألف إلى الياء مع الضمير؟ والمعنى: تنزيه اللّه تعالى من صفات العجز، والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله. وأما قوله: {حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله {ما هذا بَشَرًا} نفين عنه البشرية لغرابة جماله ومباعدة حسنه، لما عليه محاسن الصور، وأثبتن له الملكية وبتتن بها الحكم، وذلك لأن اللّه عز وجل ركز في الطباع أن لا أحسن من الملك، كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان، ولذلك يشبه كل متناه في الحسن والقبح بهما، وما ركز ذلك فيها إلا لأنّ الحقيقة كذلك، كما ركز في الطباع أن لا أدخل في الشر من الشياطين، ولا أجمع للخير من الملائكة، إلا ما عليه الفئة الخاسئة المجبرة من تفضيل الإنسان على الملك، وما هو إلا من تعكيسهم للحقائق، وجحودهم للعلوم الضرورية، ومكابرتهم في كل باب، وإعمال (ما) عمل (ليس) هي اللغة القدمى الحجازية وبها ورد القرآن. ومنها قوله تعالى: {ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ} ومن قرأ على سليقته من بنى تميم، قرأ {بشر} بالرفع. وهي في قراءة ابن مسعود. وقرئ: {ما هذا بشرى}، أي ما هو بعبد مملوك لئيم {إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} تقول هذا بشرى، أي حاصل بشرى، بمعنى: هذا مشرى. وتقول: هذا لك بشرى أم بكرى؟
والقراءة هي الأولى، لموافقتها المصحف، ومطابقة بشر لملك {قالَتْ فَذلِكُنَّ} ولم تقل فهذا وهو حاضر، رفعًا لمنزلته في الحسن، واستحقاق أن يحب ويفتتن به، وربئًا بحاله واستبعادًا لمحله. ويجوز أن يكون إشارة إلى المعنىّ بقولهنّ: عشقت عبدها الكنعانى. تقول: هو ذلك العبد الكنعانى الذي صوّرتن في أنفسكنّ، ثم لمتنني فيه. تعنى: أنكن لم تصوّرنه بحق صورته، ولو صوّرتنه بما عاينتن لعذرتننى في الافتنان به. الاستعصام: بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها. ونحوه استمسك واستوسع الفتق واستجمع الرأى واستفحل الخطب. وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام لا مزيد عليه، وبرهان لا شيء أنور منه، على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو مما فسروا به الهمّ والبرهان. فإن قلت: الضمير في {آمُرُهُ} راجع إلى الموصول، أم إلى يوسف؟ قلت: بل إلى الموصول. والمعنى: ما آمر به، فحذف الجار كما في قولك: أمرتك الخير، ويجوز أن تجعل (ما) مصدرية، فيرجع إلى يوسف. ومعناه: ولئن لم يفعل أمرى إياه، أي موجب أمرى ومقتضاه. قرئ: {وَلَيَكُونًا} بالتشديد والتخفيف. والتخفيف أولى، لأنّ النون كتبت في المصحف ألفًا على حكم الوقف، وذلك لا يكون إلا في الخفيفة.

.[سورة يوسف: الآيات 33- 34]

{قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)}
وقرئ: {السِّجْنُ} بالفتح، على المصدر. وقال: {يَدْعُونَنِي} على إسناد الدعوة إليهنّ جميعًا، لأنهنّ تنصحن له وزيّن له مطاوعتها، وقلن له: إياك وإلقاء نفسك في السجن والصغار، فالتجأ إلى ربه عند ذلك وقال: ربِّ نزولُ السجن أحبّ إلى من ركوب المعصية. فإن قلت: نزول السجن مشقة على النفس شديدة، وما دعونه إليه لذة عظيمة، فكيف كانت المشقة أحبّ إليه من اللذة؟ قلت: كانت أحبّ إليه وآثر عنده نظرًا في حسن الصبر على احتمالها لوجه اللّه، وفي قبح المعصية، وفي عاقبة كل واحدة منهما، لا نظرًا في مشتهى النفس ومكروهها {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} فزع منه إلى ألطاف اللّه وعصمته، كعادة الأنبياء والصالحين فيما عزم عليه ووطن عليه نفسه من الصبر، لا أن يطلب منه الإجبار على التعفف والإلجاء إليه {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أمل إليهنّ. والصبوة: الميل إلى الهوى. ومنها: الصبا، لأنّ النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها. وقرئ: {أصب إليهنّ} من الصبابة {مِنَ الْجاهِلِينَ} من الذين لا يعملون بما يعلمون. لأنّ من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء. أو من السفهاء، لأنّ الحكيم لا يفعل القبيح. وإنما ذكر الاستجابة ولم يتقدّم الدعاء، لأنّ قوله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي} فيه معنى طلب الصرف والدعاء باللطف {السَّمِيعُ} لدعوات الملتجئين إليه {الْعَلِيمُ} بأحوالهم وما يصلحهم.

.[سورة يوسف: آية 35]

{ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)}
{بَدا لَهُمْ} فاعله مضمر، لدلالة ما يفسره عليه وهو: ليسجننه، والمعنى: بدا لهم بداء، أي: ظهر لهم رأى ليسجننه، والضمير في {لَهُمْ} للعزيز وأهله {مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ} وهي الشواهد على براءته، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها، وفتلها منه في الذروه والغارب وكان مطواعة لها وجميلا ذلولا زمامه في يدها، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات وعمل برأيها في سجنه وإلحاق الصغار به كما أو عدته به، وذلك لما أيست من طاعته لها، أو لطمعها في أن يذلله السجن ويسخره لها. وفي قراءة الحسن: {لتسجننه} بالتاء على الخطاب: خاطب به بعضهم العزيز ومن يليه، أو العزيز وحده على وجه التعظيم حَتَّى حِينٍ إلى زمان، كأنها اقترحت أن يسجن زمانًا حتى تبصر ما يكون منه. وفي قراءة ابن مسعود: {عتى حين}، وهي لغة هذيل. وعن عمر رضى اللّه عنه أنه سمع رجلا يقرأ {عتى حين} فقال: من أقرأك؟ قال: ابن مسعود. فكتب إليه: إن اللّه أنزل هذا القرآن فجعله عربيا وأنزله بلغة قريش، فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل، والسلام.

.[سورة يوسف: آية 36]

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)}
مع يدل على معنى الصحبة واستحداثها. تقول: خرجت مع الأمير، تريد مصاحبا له، فيجب أن يكون دخولهما السجن مصاحبين له {فَتَيانِ} عبدان للملك: خبازه وشرابيه: رقى إليه أنهما يسمانه، فأمر بهما إلى السجن، فأدخلا ساعة أدخل يوسف عليه السلام إِنِّي أَرانِي يعنى في المنام، وهي حكاية حال ماضية {أَعْصِرُ خَمْرًا} يعنى عنبًا، تسمية للعنب بما يؤول إليه. وقيل: الخمر- بلغة عمان-: اسم للعنب. وفي قراءة ابن مسعود: {أعصر عنبا} {مِنَ الْمُحْسِنِينَ} من الذين يحسنون عبارة الرؤيا، أمى: يجيدونها، رأياه يقصّ عليه بعض أهل السجن رؤياه فيؤوّلها له، فقالا له ذلك. أو من العلماء، لأنهما سمعاه يذكر للناس ما علما به أنه عالم.
أو من المحسنين إلى أهل السجن. فأحسن إلينا بأن تفرّج عنا الغمة بتأويل ما رأينا إن كانت لك يد في تأويل الرؤيا. روى أنه كان إذا مرض رجل منهم قام عليه، وإذا أضاق وسع له، وإذا احتاج جمع له. وعن قتادة: كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم، فجعل يقول: أبشروا. اصبروا تؤجروا، إنّ لهذا لأجرا، فقالوا: بارك اللّه عليك ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك! لقد بورك لنا في جوارك، فمن أنت يا فتى؟ قال، أنا يوسف ابن صفىّ اللّه يعقوب ابن ذبيح اللّه إسحاق ابن خليل اللّه إبراهيم، فقال له عامل السجن: لو استطعت خليت سبيلك، ولكنى أحسن جوارك، فكن في أي بيوت السجن شئت. وروى أن الفتيين قالا له إنا لنحبك من حين رأيناك، فقال: أنشد كما باللّه أن لا تحبانى، فو اللّه ما أحبنى أحد قط إلا دخل علىّ من حبه بلاء، لقد أحبتنى عمتي فدخل علىّ من حبها بلاء، ثم أحبنى أبى فدخل علىّ من حبه بلاء، ثم أحبتنى زوجة صاحبي فدخل علىّ من حبها بلاء، فلا تحبانى- بارك اللّه فيكما- وعن الشعبي أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابي، إنى أرانى في بستان، فإذا بأصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب، فقطفتها وعصرتها في كأس الملك، وسقيته. وقال الخباز: إنى أرانى وفوق رأسى ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة، وإذا سباع الطير تنهش منها. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: {نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ}؟ قلت: إلى ما قصا عليه. والضمير يجرى مجرى اسم الإشارة في نحوه كأنه قيل: نبئنا بتأويل ذلك.

.[سورة يوسف: الآيات 37- 38]

{قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38)}
لما استعبراه ووصفاه بالإحسان، افترص ذلك فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء، وهو الإخبار بالغيب، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما، ويقول: اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت، فيجدانه كما أخبرهما، وجعل ذلك تخلصًا إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما، ويقبح إليهما الشرك باللّه، وهذه طريقة على كل ذى علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة، إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة والنصيحة أولا، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجب عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه بعد ذلك، فيه أنّ العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف نفسه بما هو بصدده- وغرضه أن يقتبس منه وينتفع به في الدين- لم يكن من باب التزكية {بِتَأْوِيلِهِ} ببيان ماهيته وكيفيته، لأنّ ذلك بشبه تفسير المشكل والإعراب عن معناه {ذلِكُما} إشارة لهما إلى التأويل، أي ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات {مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} وأوحى به إلىّ ولم أقله عن تكهن وتنجم {إِنِّي تَرَكْتُ} يجوز أن يكون كلامًا مبتدأ، وأن يكون تعليلا لما قبله. أي علمني ذلك وأوحى إلىّ، لأنى رفضت ملة أولئك واتبعت ملة الأنبياء المذكورين وهي الملة الحنيفية، وأراد بأولئك الذين لا يؤمنون: أهل مصر ومن كان الفتيان على دينهم، وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصًا كافرون بالآخرة، وأنّ غيرهم كانوا قومًا مؤمنين بها، وهم الذين على ملة إبراهيم، ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيهًا على ما هم عليه من الظلم والكبائر التي لا يرتكبها إلا من هو كافر بدار الجزاء.
ويجوز أن يكون فيه تعريض بما منى به من جهتهم حين أودعوه السجن، بعد ما رأوا الآيات الشاهدة على براءته، وأنّ ذلك ما لا يقدم عليه إلا من هو شديد الكفر بالجزاء وذكر آباءه ليريهما أنه من بيت النبوّة بعد أن عرّفهما أنه نبىّ يوحى إليه، بما ذكر من إخباره بالغيوب ليقوى رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله: {ما كانَ لَنا} ما صحّ لنا معشر الأنبياء {أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ} أي شيء كان من ملك أو جنىّ أو إنسىّ، فضلا أن نشرك به صنما لا يسمع ولا يبصر، ثم قال: {ذلِكَ} التوحيد {مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ} أي على الرسل وعلى المرسل إليهم، لأنهم نبهوهم عليه وأرشدوهم إليه {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} المبعوث إليهم {لا يَشْكُرُونَ} فضل اللّه فيشركون ولا يتنبهون.
وقيل: إنَّ ذلك من فضل اللّه علينا لأنه نصب لنا الأدلة التي ننظر فيها ونستدلّ بها. وقد نصب مثل تلك الأدلة لسائر الناس من غير تفاوت، ولكن أكثر الناس لا ينظرون ولا يستدلون اتباعا لأهوائهم، فيبقون كافرين غير شاكرين.